يشكّل قطاع الطاقة في الجزائر محورًا رئيسًا في خطط مواجهة التحديات المناخية المتزايدة التي تتطلب استجابة سريعة وشاملة للحدّ من تأثيرات التغيرات المناخية بالبيئة والاقتصاد.
ويعدّ قطاع الطاقة من القطاعات الحيوية التي تسهم بشكل كبير في الانبعاثات الغازية، لكنه في الوقت ذاته يشكّل ركيزة أساسية في إستراتيجية الدولة للتعامل مع هذه التحديات، من خلال مشروعات تهدف إلى تقليل انبعاثات غازات الدفيئة وتطوير مصادر الطاقة المتجددة.
في هذا السياق، تؤدي شركتا سوناطراك وسونلغاز دورًا محوريًا بقيادة تحول الطاقة في الجزائر، من خلال تنفيذ إستراتيجيات تهدف إلى تقليص بصمتهما الكربونية وتحسين كفاءة استعمال الطاقة.
وتسعى الشركتان من خلال المبادرات إلى توجيه الجزائر نحو مرحلة جديدة من الاستدامة الطاقية، بما يسهم في تلبية احتياجاتها المحلية ويعزز من جهودها العالمية في مكافحة التغيرات المناخية، فضلًا عن وفاء الجزائر بالتزاماتها البيئية.
جهود سوناطراك
يعدّ قطاع الطاقة في الجزائر من القطاعات الرئيسة المسؤولة عن تدابير التخفيف لمواجهة التغير المناخي، إذ نُفِّذَت عدّة إجراءات لتقليل انبعاثات الغازات الدفيئة على مستوى العرض والطلب.
وفي جانب العرض، نفّذت شركة سوناطراك مبادرات لتقليص الانبعاثات الفجائية، مثل غازات الشعلة والانبعاثات الناتجة عن إنتاج النفط والغاز، من خلال تقليل عمليات الشعلة وتبخير الغازات في مواقع الإنتاج.
أمّا في جانب الطلب، فقد انصبّ التركيز على تعزيز استعمال الغاز الطبيعي بديلًا للوقود الأكثر إصدارًا للغازات الدفيئة، وتطوير الطاقة المتجددة، وتحسين كفاءة الطاقة.
وتهدف الإجراءات إلى الوفاء بالتزامات الجزائر بموجب اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ، وهي تتماشى مع احتياجات التنمية الوطنية وتعكس أهمية خطط الانتقال الطاقي، وجرى تأكيد هذه الخيارات ضمن الطموحات التي أعلنتها الجزائر لتحقيق الإسهامات المحددة وطنيًا.
وفي عام 2018، انضمت الجزائر إلى مبادرة “صفر حرق روتيني للغاز بحلول عام 2030″، التي أطلقتها الأمم المتحدة والبنك الدولي سنة 2015، من خلال المبادرة، انضمت شركة سوناطراك إلى 35 شركة عالمية في قطاع النفط والغاز، بالإضافة إلى 27 حكومة من بينها ولاية كاليفورنيا، و15 مؤسسة أخرى.
التكيف مع التغير المناخي
تولي -في السنوات الأخيرة- شركة سوناطراك اهتمامًا متزايدًا بمسألة التكيف مع التغير المناخي وخفض انبعاثات غازات الدفيئة، ففي عام 2019 أُنشئ قسم خاص بالمناخ والانبعاثات داخل المديرية المركزية للصحة والسلامة والبيئة.
كما تعمل الشركة على إنشاء لجان مناخية ضمن الأنشطة الرئيسة الأربعة لها، إضافة إلى خلايا مناخية في بنيتها التحتية، ويتولى القسم مسؤولية إعداد جرد لانبعاثات غازات الدفيئة ومتابعة إجراءات التخفيف منها، بالإضافة إلى تنفيذ مهام الإبلاغ وإعداد التقارير الدورية حول الانبعاثات وتطوير إستراتيجيات للحدّ منها.
كما وضعت سوناطراك منذ عام 2019 إطارًا مرجعيًا لجرد انبعاثات غازات الدفيئة، يهدف إلى تحديد الإجراءات اللازمة لإعداد تقارير دقيقة عن الانبعاثات، ويشمل آليات لمراقبة جودة الجرد وضمان التوثيق المنتظم لانبعاثات الشركة وفقًا للمعايير الوطنية والدولية.
وتُقدّم الإدارات المختلفة تقارير شهرية وسنوية إلى هيئة تنظيم الهيدروكربونات والمديرية المركزية للصحة والسلامة والبيئة حول الانبعاثات، بهدف الحدّ من فقدان الغاز الناتج عن عمليات الاحتراق في مواقع الشركة.
ومنذ عام 2019، نفّذت عدّة مواقع تابعة لسوناطراك مشروعات لاستعادة الغاز المصاحب في حقول النفط، مما أسهم في تقليل كميات الغاز المحروق والغازات المتبخرة.
فعلى سبيل المثال، أسهمت المشروعات المنجزة بين عامي 2019 و2021 في استعادة 2.39 مليون متر مكعب من الغاز، وخفضت نسبة حرق الغاز المصاحب من 4.45% في عام 2021 إلى 3.68% في عام 2022.
بالإضافة إلى ذلك، بدأت سوناطراك في تجهيز مواقعها النفطية والغازية بمحطات شمسية منذ عام 2017، بهدف تقليل انبعاثات غازات الدفيئة، كما نُفِّذَت مبادرات لتحويل إنتاج الكهرباء في بعض المواقع إلى الطاقة المتجددة، بما في ذلك الاتفاقية مع شركة “إيني” الإيطالية التي أسفرت عن بناء محطة طاقة شمسية بقدرة 10 ميغاواط.
الحوكمة المناخية
تشكّل الحوكمة المناخية محور رئيس في الرؤية الإستراتيجية لشركة سوناطراك في ترسيخ مكانتها القيادية المناخية على الصعيدين الوطني والدولي، التي تتماشى مع أهداف الجزائر المناخية المُدرجة في الإسهامات المحددة وطنيًا واتفاقية باريس للمناخ، من خلال:
- تقليص كثافة الكربون في منتجاتها الطاقية، ضمن إطار سياسة الصحة والسلامة والبيئة التي أعلنتها الشركة في مارس/آذار 2021.
- تقليل البصمة الكربونية عبر تحسين كفاءة الأداء الطاقي والعملياتي.
- خفض انبعاثات غازات الدفيئة، وتطوير تكنولوجيات وعمليات منخفضة الكربون.
وتشمل تعزيز حوكمة المناخ، تقليل الانبعاثات، وزيادة امتصاص الكربون، والتحكم في استهلاك الطاقة، فضلًا عن تشجيع مصادر الطاقة الجديدة مثل الطاقات المتجددة والهيدروجين، وتعزيز الشفافية في العمل المناخي من خلال نظام شامل للرصد والتقرير والتحقق.
وتتمثل الإجراءات المتعلقة بتخفيض انبعاثات الغازات الدفيئة في تقليل حرق الغاز إلى أقل من 1% بحلول عام 2030، وتقليص الانبعاثات الفجائية للميثان من خلال برامج دورية للكشف عن التسربات وإصلاحها، وتعزيز كفاءة الطاقة عبر متابعة التدقيقات الطاقية وتنفيذ التوصيات الناتجة عنها، إضافة إلى إطلاق مشروعات تشجير واسعة (مشروع غرس أكثر من 400 مليون شجرة) تهدف إلى امتصاص غازات الدفيئة في مختلف ولايات الجزائر ضمن إطار عقد الأمم المتحدة لاستعادة النظم البيئية (2021-2030).
خطط سونلغاز
يُعدّ الغاز الطبيعي المصدر الرئيس للطاقة في الجزائر، إذ يشكّل 33.8% من إجمالي استهلاك الطاقة النهائي، ونحو 99% من مزيج الطاقة الكهربائية، وتمثّل المنتجات النفطية والغازات المسالة 37.8% من استهلاك الطاقة النهائي.
ومع زيادة النمو السكاني والتطور الاقتصادي، ارتفع الاستهلاك الوطني للطاقة بشكل ملحوظ، مما جعل قطاع الهيدروكربونات المصدر الرئيس لانبعاثات غازات الدفيئة في البلاد.
وتهدف الجزائر إلى تعزيز دمج استهلاك الطاقة الذاتية والطاقة المتجددة في الشبكة الوطنية، ودعم إنتاج الكهرباء المتجددة عبر آليات تشجيع صغار المنتجين، وتحسين كفاءة الطاقة في مختلف القطاعات.
ويرتكز برنامج الطاقات المتجددة على الطاقة الشمسية والرياح، إلى جانب مصادر أخرى مثل الكتلة الحيوية والطاقة الجيولوجية الحرارية.
وتمّ تحقيق عدّة مشروعات بارزة، مثل إنشاء محطات طاقة شمسية بسعة 343 ميغاواط، ومحطة شمسية تجريبية في غرداية، ومزرعة رياح في أدرار، بالإضافة إلى تشغيل أول محطة هجينة للطاقة الشمسية والغاز في حاسي الرمل عام 2011.
إستراتيجية سونلغاز لتحول الطاقة
تقود سونلغاز برنامج الطاقة الشمسية الجزائري الذي يستهدف توليد 15 ألف ميغاواط من المصادر المتجددة بحلول2035، والذي بدأ تجسيده ببرنامج 3 آلاف ميغاواط في منتصف مارس/آذار الماضي.
ويتضمن البرنامج 2000 ميغاواط، ويتمثل في تنفيذ 15 محطة طاقة شمسية، بقدرات تتراوح من 80 إلى 220 ميغاواط، موزعة عبر 12 ولاية (بشار، المسيلة، برج بوعريريج، باتنة، الأغواط، غرداية، تيارت، الوادي، توقرت، المغير، بسكرة، أولاد جلال)، ومشروع سولار 1000 المتضمن إنجاز 5 محطات شمسية في الجزائر، تتراوح قدرتها بين 50 و300 ميغاواط، موزعة عبر 5 ولايات (الأغواط، ورقلة، توقرت، الوادي، بشار)
وتسعى سونلغاز إلى قيادة التحول الطاقي وتعزيز دورها في مجال الطاقات المتجددة من خلال تنفيذ إستراتيجيتين رئيستين:
- الأولى: خطة تطوير الطاقات المتجددة، التي تهدف إلى زيادة القدرة الإنتاجية من مصادر الطاقة المتجددة، مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح.
- الثانية: تبنّي نهج بيئي مسؤول، يركّز على تقليل البصمة الكربونية لعمليات الشركة الداخلية، بالإضافة إلى مساعدة العملاء بالتحكم في استهلاكهم للطاقة.
تشمل هذه الإستراتيجية الأنشطة المتعلقة بإنتاج الكهرباء، ونقل وتوزيع الطاقة عبر الشركات التابعة لمجموعة سونلغاز.
ومن بين أبرز الأنشطة التي تسهم في تقليص انبعاثات غازات الدفيئة، الاستمرار في تطوير محطات الطاقة المركبة عالية الكفاءة، وبناء محطات للطاقة المتجددة مثل الشمسية والرياح، فضلًا عن تنفيذ برنامج للحدّ من انبعاثات غاز سداسي فلوريد الكبريت من المعدّات الكهربائية عبر تدابير وقائية منهجية.
من جانبها، أطلقت سونلغاز مجموعة من المبادرات لتقليص الانبعاثات، بما في ذلك مشروعات تهجين محطات الطاقة بين الشمس والغاز، وتعزيز تقنية الدورة المركبة في إنتاج الكهرباء، وأعمال صيانة المحطات، في عام 2020.
كما أُعيدَت هيكلة سونلغاز وإنشاء إدارة للصحة والسلامة والبيئة التي تشرف على جميع الأنشطة البيئية وتجمع بيانات انبعاثات غازات الدفيئة وتنظيم تقارير أنشطة التخفيف.
وفي يونيو/حزيران 2021، أطلقت سونلغاز خطّتها الإستراتيجية لتحسين إدارة وتقرير انبعاثات غازات الدفيئة، التي تشمل تطوير الطاقات المتجددة ومنهجية صديقة للبيئة.
كما أُنشئ نظام للرصد والإبلاغ عن انبعاثات الغاز الطبيعي الناتجة عن التدخلات المبرمجة من قبل فرع إدارة شبكة نقل الغاز، إذ تعدّ الإدارة تقارير مفصلة حول الانبعاثات، وتُرسَل البيانات إلى مختلف الإدارات ذات الصلة لتوثيق ومتابعة هذه الانبعاثات.
وتشكّل إستراتيجيات التكيف التي ينفّذها قطاع الطاقة في الجزائر، من خلال شركاتها الكبرى سوناطراك وسونلغاز، خطوة مهمة نحو تحقيق تحول طاقي مستدام.
ومن خلال الاستثمار في الطاقات المتجددة، وتحسين كفاءة الطاقة، وتطبيق تقنيات منخفضة الكربون، بالإضافة إلى تعزيز الحوكمة المناخية من خلال أنظمة شاملة للرصد والتقرير، تسعى الجزائر لمواجهة التحديات المناخية وتحقيق أهدافها البيئية.
ولكن، بالرغم من الجهود، يبقى الطريق طويلًا، ويستدعي تعزيز التنسيق بين مختلف الأطراف المعنية، فضلًا عن ضرورة توفير بنية تحتية تقنية متطورة لدعم الرصد الدقيق للانبعاثات، وتذليل التحديات المالية المرتبطة بتمويل مشروعات الطاقة المتجددة، بالإضافة إلى تدريب الكوادر وتطوير القدرات اللازمة لإدارة تحول الطاقة في الجزائر بفعالية.
إضافة إلى ذلك، يتطلب الأمر تفعيل سياسات مبتكرة تسهم في الانتقال إلى مستقبل طاقي أخضر، إذ يُعدّ تعزيز الحوكمة المناخية والعمل المشترك بين القطاعات المختلفة في الجزائر خطوة أساسية لتحقيق نتائج أكبر في إدارة التحديات المناخية وضمان استدامة الموارد البيئية والاقتصادية للأجيال القادمة.
إن التزام الجزائر بالتحول الطاقي يُعدّ نقطة انطلاق نحو تحقيق الأمن الطاقي والبيئي، ويعزز الحاجة إلى تبنّي سياسات متكاملة وفعالة من قبل صانعي القرار، بما يسهم في تعزيز الاستدامة وتلبية الاحتياجات التنموية المستقبلية.
* د.منال سخري – أستاذة وخبيرة في السياسات البيئية والتنمية المستدامة.
*هذا المقال يعبّر عن رأي الكاتب، ولا يعبّر بالضرورة عن رأي منصة الطاقة.
موضوعات متعلقة..
اقرأ أيضًا..
Leave a Reply