اقرأ في هذا المقال
- • روسيا تعمل على إعادة توجيه صادراتها من الطاقة بصورة متزايدة نحو الشرق
- • الحالة الحالية لإمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا تمثّل تفاعلًا معقدًا بين التوترات الجيوسياسية
- • بالنسبة إلى موسكو يشكل تعزيز صادرات الغاز المسال أهمية بالغة لتوليد الإيرادات لدعم اقتصادها
- • من المرجح أن تستمر إستراتيجية تصدير الغاز الروسية في التركيز المزدوج على الصين وأوروبا
شهد المشهد الجيوسياسي المحيط بإمدادات النفط والغاز الروسيين إلى أوروبا تغيرًا كبيرًا؛ إذ تكشف الأزمة الحالية عن التعقيدات والتداخلات بين أسواق الطاقة والسياسة والإستراتيجيات الاقتصادية.
أولًا: خط أنابيب دروجبا.. محور جدال كبير
مثّل خط أنابيب دروجبا -وهو ممر حيوي للنفط الروسي إلى أوروبا- محور جدال كبير.
في منتصف يوليو/تموز 2024، توقفت إمدادات الفرع الجنوبي من خط الأنابيب هذا، الذي ينقل النفط عبر أوكرانيا إلى سلوفاكيا والمجر وجمهورية التشيك.
وقد أدى هذا التوقف إلى خسارة تُقدّر بنحو 80 ألف برميل يوميًا لسلوفاكيا والمجر، وهي ضربة اقتصادية كبيرة لهذه الدول التي تعتمد بصورة كبيرة على إمدادات النفط هذه.
ولا يُعَد هذا التوقف مجرد قضية تقنية، إنما هو انعكاس للتوترات الجيوسياسية الأوسع نطاقًا، ويبدو دور أوكرانيا في هذا السيناريو مزدوجًا.
فمن ناحية تستفيد من رسوم العبور، ومن ناحية أخرى تستغل روسيا موقعها الإستراتيجي لممارسة الضغط السياسي، خصوصًا ضد المجر، التي حافظت على موقف أكثر تصالحية تجاه موسكو.
واقترح رئيس الوزراء السلوفاكي، روبرت فيكو، “حلًا تقنيًا” للمشكلة، على الرغم من أن التفاصيل ما تزال غير معلنة، ما يشير إلى مفاوضات جارية خلف الكواليس تضم عدة دول.
السياق الأوسع: العقوبات واقتصادات الطاقة
تتضمّن خلفية هذا الموقف سلسلة من العقوبات ضد موسكو، تستهدف تحديدًا واردات النفط والغاز الروسيين، فقد نفّذ الاتحاد الأوروبي، بهدف الحد من اعتماده على الطاقة الروسية، حظرًا على وارداته من النفط الروسي عبر الطرق البحرية؛ لكنه استثنى عمليات التسليم عبر خطوط الأنابيب.
وقد سمح هذا الاستثناء لدول مثل المجر بمواصلة تسلم النفط الروسي، وإن كان ذلك تحت طائلة العقوبات المحتملة والتداعيات السياسية.
ومن المثير للاهتمام أنه في حين توقفت ألمانيا عن استيراد النفط الروسي بدءًا من يناير/كانون الثاني 2023، استمرت بولندا في القيام بذلك حتى نهاية التزاماتها التعاقدية.
ويُظهر هذا التناقض التحديات التي تواجهها أوروبا في فرض العقوبات بصورة موحدة، ويوضح التعقيدات داخل الاتحاد الأوروبي فيما يتصل بالاعتماد على الطاقة والتحالفات السياسية.
التداعيات الاقتصادية والسياسية
يُعَد السيناريو الحالي نموذجًا مصغرًا للتداعيات الاقتصادية والسياسية الأوسع نطاقًا لسياسات الطاقة الأوروبية.
وأدى رفض استيراد النفط والغاز الروسيين إلى ارتفاع أسعار البنزين، وتسبب في تفاقم الضغوط التضخمية في جميع أنحاء القارة، ما أثر في أسعار المواد الغذائية.
ويتفاقم هذا الضغط الاقتصادي بسبب التكاليف المتزايدة المرتبطة باستيراد النفط من الموردين البدلاء، ما يزيد من الضغوط على الاقتصادات الأوروبية التي تواجه التداعيات الاقتصادية لجائحة كوفيد-19 والضبابية الجيوسياسية.
بالإضافة إلى ذلك، شهد التحول بعيدًا عن النفط الروسي استمرار شركات الشحن الأوروبية، خصوصًا من اليونان ومالطا وقبرص، في نقل كميات كبيرة من النفط الروسي، على الرغم من العقوبات.
ويشير هذا إلى شبكة معقدة من المصالح الاقتصادية التي تتجاوز الخطاب السياسي، ما يسلّط الضوء على الصعوبات في تحقيق نظام عقوبات متماسك وفعّال.
التحديات المستقبلية
بالنظر إلى المستقبل، تظل إستراتيجية الطاقة الأوروبية عند مفترق طرق، فالاعتماد على النفط والغاز الروسيين في المنطقة يواجه تحديًا بسبب الديناميكيات الجيوسياسية والدفع نحو مصادر الطاقة المتجددة.
من ناحية ثانية، فإن التحول إلى مصادر الطاقة المتجددة محفوف بالتحديات، بما في ذلك التكاليف المرتفعة والقيود التكنولوجية واعتراض المستهلك.
ومن جانبها، تعمل موسكو على إعادة توجيه صادراتها من النفط والغاز الروسيين بصورة متزايدة نحو الشرق، خصوصًا إلى الهند والصين، ردًا على العقوبات الأوروبية.
ويجري تسهيل هذا التحول من خلال تقديم تخفيضات على خام الأورال، ما يجعل النفط الروسي خيارًا جذابًا للأسواق المتأثرة بالسعر.
وتشير تطورات خط أنابيب دروجبا إلى الصراع الجيوسياسي الأوسع بين روسيا والغرب، وهي تؤكد أهمية التوازن الدقيق بين القوة والاقتصاد والسياسة الذي يميّز المشهد العالمي للطاقة.
وعلى الرغم من أن أوروبا تعالج التأثيرات المباشرة لارتفاع أسعار الطاقة والاضطراب الاقتصادي، يظل السؤال طويل الأجل قائمًا: هل تستطيع القارة أن تتخلص فعليًا من النفط والغاز الروسيين، أم أن المصالح الاقتصادية الواقعية ستسود على المثل السياسية؟
وسوف تشكّل الإجابات عن هذه الأسئلة مستقبل أمن الطاقة الأوروبي والتوافقات الجيوسياسية لسنوات مقبلة.
ثانيًا: الشبكة المعقدة لإمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا
خضع مشهد إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا لاضطرابات كبيرة، تميزت بالتوترات الجيوسياسية وتحديات البنية التحتية وتحول طرق الإمداد.
وبدءاً من 30 يوليو/تموز 2024، يستمر نقل الغاز عبر نظام نقل الغاز الأوكراني (GTS) حصريًا عبر محطة قياس الغاز “سودجا”، في حين تواجه طرق أخرى قيودًا مختلفة أو غير عاملة تمامًا.
نقل الغاز عبر أوكرانيا
تُعد محطة قياس الغاز “سودجا”، وهي نقطة دخول إلى أوكرانيا من روسيا عبر خط أنابيب الغاز “يورنغوي-بوماري-أوغورود”، حاليًا طريق النقل التشغيلي الوحيد للغاز الروسي عبر أوكرانيا.
جرى الإبلاغ عن حجم طلبات الغاز للعبور عبر هذه المحطة عند 42.399 مليون متر مكعب بدءًا من 30 يوليو/تموز 2024، وفقًا لمشغل نظام نقل الغاز الأوكراني “أوغتسو” (UGTSO).
بدورها، أكّدت شركة غازبروم الروسية Gazprom هذه الأرقام، مشددة على أن نقل الغاز مستمر بالحجم المتفق عليه مع الجانب الأوكراني.
تجدر الإشارة إلى أن منطقة سوخرانوفكا الكبرى -وهي نقطة دخول أخرى عبر خط أنابيب الغاز سويوز- كانت معطلة منذ 11 مايو/أيار 2022.
وأعلنت نقابة عمال أوكرانيا حالة القوة القاهرة، وهي الخطوة التي طعنت فيها شركة غازبروم، التي وصفت الإعلان بأنه لا أساس له من الصحة.
وقد جعل هذا الوضع منطقة سوخرانوفكا الكبرى الشريان الحيوي لتدفق الغاز الروسي عبر أوكرانيا، مع تقلب أحجام العبور ولكنها تحافظ عمومًا على نحو 40 مليون متر مكعب يوميًا.
خطوط رئيسة أخرى.. نورد ستريم ويامال-أوروبا
توقف خط أنابيب الغاز نورد ستريم 1، وهو ممر مهم للغاز الروسي مباشرة إلى ألمانيا، عن العمل منذ 31 أغسطس/آب 2022، بسبب مشكلات في وحدات ضغط الغاز التابعة لشركة سيمنس.
بالإضافة إلى ذلك، تعرّض خط الأنابيب لأضرار جسيمة نتيجة للانفجارات في بحر البلطيق في 26 سبتمبر/أيلول 2022.
وتعرّض خط أنابيب نورد ستريم 2 المجاور، الذي ما يزال غير معتمد في الاتحاد الأوروبي، لأضرار، على الرغم من أن أحد خطوطه ربما ظل دون تأثر.
وما يزال مستقبل خطوط الأنابيب هذه غير مؤكد، وسط استمرار التحقيقات والإصلاحات.
وأصبح خط أنابيب يامال-أوروبا، وهو طريق رئيس آخر، غير متاح لشركة غازبروم منذ 11 مايو/أيار 2022، بسبب العقوبات المضادة التي فرضتها روسيا.
وقد أدى هذا الوضع إلى زيادة تقييد إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا، ما تسبب في إعادة تشكيل طرق الإمداد والكميات.
دور خط أنابيب الغاز التركي وجنوب شرق أوروبا
استجابة لهذه التحديات، أصبح خط أنابيب الغاز التركي، خصوصًا خطه الثاني الموجه نحو جنوب شرق أوروبا، طريقًا بالغ الأهمية.
وتشير بيانات منصة الشبكة الأوروبية لمشغلي أنظمة نقل الغاز “إنتسوغ” ENTSOG إلى تعافي تدفق الغاز عبر خط أنابيب “سترانجا-2/مالكوشلار” على الحدود التركية البلغارية، مع زيادة الأحجام من 43.67 مليون متر مكعب في 29 يوليو/تموز إلى 47.57 مليون متر مكعب متوقعة في 30 يوليو/تموز 2024.
ويمثّل خط الأنابيب هذا حلقة وصل حيوية للغاز الروسي، الذي يصل إلى الأسواق في جنوب شرق أوروبا، وسط الاضطرابات الأوسع في طرق الإمداد التقليدية.
السياق الأوسع: التوترات الجيوسياسية وحقائق السوق
تمثّل الحالة الحالية لإمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا تفاعلًا معقدًا بين التوترات الجيوسياسية، والأضرار التي لحقت بالبنية التحتية، وديناميكيات السوق المتطورة.
لقد أجبرت الاضطرابات، التي لحقت بخط أنابيب نورد ستريم والقيود المفروضة على خط أنابيب يامال-أوروبا القارة العجوز على تنويع مصادرها من الغاز، والاعتماد بصورة متزايدة على واردات الغاز المسال وطرق خطوط الأنابيب البديلة، مثل ممر الغاز الجنوبي والإمدادات من شمال أفريقيا.
رغم ذلك، فإن الاعتماد على الغاز الروسي ما يزال كبيرًا، خصوصًا بالنسبة إلى الدول في وسط وشرق أوروبا. ويُعَد أمن الطاقة في المنطقة مرتبطاً ارتباطًا وثيقًا باستقرار وموثوقية طرق الإمداد هذه، ما يجعل الوضع شديد الحساسية للتحولات الجيوسياسية.
وعلى الرغم من أن أوروبا تتصدى لانخفاض إمدادات الغاز الروسي، بما في ذلك ارتفاع أسعار الطاقة والضغوط الاقتصادية، تواجه المنطقة منعطفًا حرجًا.
ويظل الدفع نحو مصادر الطاقة المتجددة والتنويع بعيدًا عن الطاقة الروسية يشكّل أولوية، ولكن التحول محفوف بالتحديات.
وسوف تستمر التطورات المتلاحقة في طرق نقل الغاز وديناميكيات العرض في تشكيل المشهد الأوروبي للطاقة، مع عواقب كبيرة على الأمن الإقليمي والاستقرار الاقتصادي.
الاعتماد المعقد لأوروبا على الغاز المسال الروسي
في الوقت الذي تعالج فيه أوروبا عواقب انخفاض إمدادات الغاز الروسي، برز تحدٍ جديد، وهو وقف اعتمادها على الغاز المسال الروسي.
وعلى الرغم من الجهود المبذولة لتنويع مصادر الطاقة، ما يزال الغاز المسال الروسي يؤدي دورًا مهمًا في مزيج الطاقة في المنطقة، وهو الوضع الذي أصبح أكثر تعقيدًا بسبب التحولات الأخيرة في أسواق الغاز المسال العالمية.
وفي يوليو/تموز 2024، أصبح الغاز المسال الروسي من مشروع يامال في القطب الشمالي أكبر مورد لأوروبا، بعد انخفاض الشحنات من الولايات المتحدة.
ويؤكد هذا التطور الصعوبة التي تواجهها أوروبا في تحرير نفسها من الاعتماد على الطاقة الروسية، حتى مع انخفاض إمدادات الغاز الروسي بوجه عام منذ غزو البلاد الكامل لأوكرانيا.
ورغم التزام الاتحاد الأوروبي بتقليص اعتماده على الغاز المسال الروسي، فإن واقع سوق الغاز المسال العالمية يعقّد هذا الهدف.
وقد جعل الاتحاد الأوروبي من الصعب على روسيا نقل الغاز المسال في جميع أنحاء العالم، لكنه لم يفرض حظرًا كاملًا على الواردات.
وفي الواقع، ارتفعت المبيعات إلى الأسواق الأوروبية الرئيسة مثل إسبانيا وفرنسا منذ فبراير/شباط 2022، ما يسلّط الضوء على طبيعة الوضع الدقيق.
السوق العالمية للغاز المسال والاعتماد الأوروبي
تتميّز السوق العالمية للغاز المسال بمرونتها، إذ تتحول تدفقات التجارة بسرعة استجابة لتقلبات الأسعار وتغيرات الطلب.
وقد جرى تسليط الضوء مؤخرًا على هذه التقلبات من خلال انخفاض شحنات الغاز المسال الأميركية إلى أوروبا، ما يؤكد مخاطر الاعتماد المفرط على الصادرات عبر الأطلسي.
وعلى عكس الغاز عبر خطوط الأنابيب، غالبًا ما تفتقر شحنات الغاز المسال إلى التزامات الوجهة الثابتة، ما يسمح للموردين بإعادة توجيه الشحنات إلى أسواق أكثر ربحية عندما تتغير الظروف.
وتعني هذه المرونة أنه عندما تكون الأسواق الآسيوية على استعداد لدفع المزيد، حسبما رأينا مؤخرًا، يمكن أن تتضاءل إمدادات الغاز المسال إلى أوروبا بسرعة.
وفي يوليو/تموز 2024، انخفضت واردات الغاز المسال الإجمالية إلى شمال غرب أوروبا بنحو 20% مقارنة بالشهر السابق، ويرجع ذلك جزئيًا إلى ركود الطلب الموسمي في الصيف.
ويشير هذا الانخفاض إلى نقاط ضعف محتملة؛ إذ خفّض الموردون الرئيسون الآخرون مثل قطر تسليماتهم للشركات الأوروبية خلال المدة نفسها.
ويزيد هذا الانخفاض من تعقيد جهود أوروبا لتأمين إمدادات مستقرة ومتنوعة من الغاز المسال.
التداعيات الاقتصادية والسياسية
ينطوي استمرار روسيا في تصدير الغاز المسال إلى أوروبا على تداعيات اقتصادية وسياسية أوسع نطاقًا. فبالنسبة إلى موسكو، يشكّل تعزيز صادرات الغاز المسال أهمية بالغة لتوليد الإيرادات لدعم اقتصادها، وبصورة غير مباشرة، أنشطتها العسكرية المستمرة، بما في ذلك الحرب في أوكرانيا.
ويضع هذا الوضع الدول الأوروبية في موقف صعب، إذ تدعم المعاملات الاقتصادية عن غير قصد الخصوم الجيوسياسيين.
وتزداد العلاقة تعقيدًا بسبب تورط المؤسسات الغربية، بما في ذلك الشركات البريطانية، التي تواصل تسهيل إمدادات الغاز المسال الروسي إلى أوروبا.
وتؤكد هذه التجارة المستمرة الطبيعة المتشابكة لأسواق الطاقة العالمية والتحديات المتمثلة في تنفيذ العقوبات الفعالة أو تحقيق الاستقلال التام في مجال الطاقة عن روسيا.
التعامل مع مشهد الطاقة المحفوف بالمخاطر
توضح جهود الاتحاد الأوروبي للحد من اعتماده على الغاز المسال الروسي التفاعل المعقد بين الجغرافيا السياسية وأمن الطاقة.
وعلى الرغم من أن أوروبا قطعت خطوات كبيرة في تنويع مصادر الطاقة، فإن الواقع هو أن الغاز المسال الروسي ما يزال يشكّل عنصرًا مهمًا في مشهد الطاقة لديها.
بدورها، فإن التقلبات المتأصلة في سوق الغاز المسال العالمية والديناميكيات المتغيرة للعرض والطلب تزيد من تعقيد مسار أوروبا نحو الاستقلال في مجال الطاقة.
ومع استمرار أوروبا في التعامل مع هذه التحديات، فإنها تواجه قرارات حاسمة بشأن طريقة تحقيق التوازن بين احتياجات الطاقة الفورية والأهداف الإستراتيجية طويلة الأجل.
ويسلّط الوضع الحالي الضوء على أهمية تطوير إستراتيجية طاقة مرنة ومتنوعة قادرة على تحمل التوترات الجيوسياسية وتقلبات السوق.
ثالثًا: صادرات الغاز الروسية.. إستراتيجية مزدوجة للصين وأوروبا وسط التحولات العالمية
أعلنت شركة غازبروم الروسية مؤخرًا إنجازًا مهمًا، إذ سجّلت رقمًا قياسيًا لإمدادات الغاز اليومية إلى الصين عبر خط أنابيب باور أوف سيبيريا في 27 يوليو/تموز 2024.
ويؤكد هذا الإنجاز العلاقة الإستراتيجية المتنامية بين روسيا والصين في قطاع الطاقة، فضلًا عن الديناميكيات الأوسع التي تشكّل أسواق الغاز العالمية.
ومع استمرار أوروبا في معالجة اعتمادها على الطاقة، فإن الطلب المتزايد على الغاز الروسي، سواء عبر خط الأنابيب أو الغاز المسال، في الصين وأوروبا يُظهر التفاعل المعقد بين الاقتصاد والسياسة وظروف السوق.
الصين: سوق رئيسة للغاز الروسي
في عام 2024، تستعد روسيا لتصدير 40 مليار متر مكعب من الغاز إلى الصين، وهو رقم قياسي، ما يضعها في المرتبة الأولى بوصفها أكبر مورد للبلاد.
ويشمل هذا الحجم ما يقرب من 30 مليار متر مكعب عبر خط أنابيب باور أوف سيبيريا و10 مليارات متر مكعب إضافية من الغاز المسال.
وتُعَد الزيادة التدريجية في عمليات تسليم خطوط الأنابيب جزءًا من زيادة مخطط لها، تستهدف الوصول إلى سعة كاملة تبلغ 38 مليار متر مكعب سنويًا بحلول عام 2025.
وقد جعل التسعير التنافسي للغاز الروسي عبر خطوط الأنابيب، المرتبط بأسعار النفط، أكثر جاذبية للصين مقارنة بأسعار الغاز المسال في السوق الفورية.
على سبيل المثال، في النصف الأول من عام 2024، كانت أسعار السوق الفورية الآسيوية تدور حول 400 دولار لكل ألف متر مكعب، في حين ظلت أسعار غاز باور أوف سيبيريا المرتبطة بالنفط أقل.
وقد شجعت هذه الميزة السعرية، إلى جانب طريق إمداد آمن ومستقر، الصين على زيادة استهلاكها من الغاز الروسي.
بالإضافة إلى ذلك، فإن صادرات الغاز المسال الروسي إلى الصين، بما في ذلك الإسهامات الكبيرة من مشروعات مثل يامال للغاز المسال، وسخالين 2، وبورتوفايا للغاز المسال، في وضع إستراتيجي لتلبية احتياجات الصين المتزايدة من الطاقة.
ويجري تسهيل هذه الصادرات من خلال الجزء الشرقي من طريق البحر الشمالي، خصوصًا عندما تكون ظروف الجليد مواتية، ما يسمح بتسليم الغاز المسال بكفاءة إلى الأسواق الآسيوية.
ديناميكيات السوق الأوروبية
على الرغم من التوترات الجيوسياسية والعقوبات المستمرة، شهدت إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا ارتفاعًا. وفي مايو/أيار 2024، زادت واردات الاتحاد الأوروبي من الغاز الطبيعي بنحو 30% مقارنة بسبتمبر/أيلول 2022.
ويُعزى هذا النمو إلى عمليات التسليم عبر خطوط الأنابيب “ترك ستريم” وخط الأنابيب الأوكراني، فضلًا عن واردات الغاز المسال.
ويمكن ربط الطلب المتزايد على الغاز الروسي في أوروبا بالتسعير التنافسي نسبيًا لغاز خط أنابيب غازبروم مقارنة بأسعار السوق الفورية للغاز المسال.
وفي العام الماضي، على سبيل المثال، انخفضت الأسعار الفورية في أوروبا من 600 دولار إلى 300-350 دولارًا لكل ألف متر مكعب، ما يجعل عقود غازبروم طويلة الأجل، وإن كانت مع تأخير، أكثر جاذبية.
في المقابل، ما تزال السوق الأوروبية محفوفة بالضبابية؛ ومع استمرار المناقشات بشأن الحظر المحتمل على واردات الغاز المسال الروسي، لم يجرِ التوصل إلى إجماع بعد بسبب المخاوف بشأن ارتفاع الأسعار ونقص الطاقة.
وتضيف احتمالات فرض عقوبات أميركية تستهدف مشروعات الغاز المسال الروسية، مثل مشروع يامال للغاز المسال ومشروع أركتيك للغاز المسال 2، نوعًا جديدًا من التعقيد.
وقد تجبر هذه العقوبات روسيا على إعادة توجيه المزيد من الغاز المسال إلى الأسواق الآسيوية، وهو السيناريو الذي يبدو أن روسيا تستعد له من خلال الاستحواذ على أسطول من ناقلات الغاز المسال.
مشكلة إمدادات الغاز الأوروبية
بالنظر إلى سعي أوروبا إلى تقليل اعتمادها على إمدادات الطاقة الروسية، برز اقتراح مثير للاهتمام ومعقد يتعلق بالغاز الأذربيجاني.
وتتضمّن الخطة المقترحة استيراد الغاز من أذربيجان، مع إمكان وصول جزء منه عبر روسيا وأوكرانيا، ما يثير المخاوف بشأن شفافية وفعالية هذا الترتيب.
دور الشركات الأوروبية ومستقبل عبور الغاز الروسي
تضيف النهاية الوشيكة لعقد عبور الغاز الروسي الأوكراني الحالي في ديسمبر/كانون الأول 2024 طبقة أخرى من التعقيد. ونص العقد، الذي جرى توقيعه في عام 2019، على كميات كبيرة من عبور الغاز عبر أوكرانيا، لكن عمليات التسليم الفعلية تباينت بسبب التوترات الجيوسياسية وتغير ظروف السوق.
وما يزال مستقبل طريق العبور هذا غير مؤكد، خصوصًا أن وزير الطاقة الأوكراني، هيرمان غالوشينكو، يؤكد أنه لا توجد عقود وقود أخرى ممكنة مع روسيا.
من جهتها، تفكر الشركات الأوروبية في شراء الغاز الأذربيجاني، الذي سيُنقل عبر خطوط الأنابيب الروسية إلى الشبكة الأوكرانية.
إن هذا الترتيب من شأنه أن يسمح باستمرار إمدادات الغاز إلى أوروبا، والحفاظ على عائدات العبور لأوكرانيا، ووضع روسيا بصفتها مركز عبور رئيس.
رغم ذلك، فإن هذه الخطة تتطلّب مفاوضات دقيقة والاتفاق على شروط وأحكام محددة، لم تُطوّر بالكامل بعد.
الخطة المقترحة وتفاصيلها
تدور الفكرة الأساسية حول استبدال الغاز الأذربيجاني بجزء من إمدادات الغاز الروسية إلى أوروبا.
من جهة أخرى، فإن هذه الخطة تأتي مع تحديات وتساؤلات كبيرة، خصوصًا فيما يتعلق بالإمداد والأصل الفعلي للغاز.
وفي الوقت الحالي، يمثّل الغاز الروسي الذي يمر عبر أوكرانيا نحو 5% من إجمالي إمدادات الاتحاد الأوروبي، أي ما يقرب من 14 مليار متر مكعب سنويًا.
وعلى النقيض من ذلك، لا تستطيع أذربيجان توريد سوى نحو ملياري متر مكعب، ما يخلق عجزًا كبيرًا إذا جرى استبدال الغاز الروسي بالكامل.
وقد أثار خبراء الطاقة مخاوف بشأن احتمال تحوّل هذا الترتيب إلى “خطة لتصدير الغاز الروسي بصورة خفية تحت ستار الغاز الأذربيجاني إلى السوق الأوروبية”.
ويعكس هذا التشكك صعوبة ضمان سلامة سلسلة إمدادات الغاز وإمكان استمرار الغاز الروسي في دخول أوروبا تحت غطاء الشحنات الأذربيجانية.
ويرى الرئيس التنفيذي لشركة نافتوغاز Naftogaz، أوليكسي تشيرنيشوف، أن صفقة الغاز الأذربيجاني تشكّل بديلًا أساسيًا لأوكرانيا.
ويتضمّن الترتيب المقترح استيراد باكو للغاز من روسيا ثم تصدير الغاز الأذربيجاني إلى أوروبا عبر خطوط الأنابيب الأوكرانية.
رغم ذلك، تواجه هذه الخطة عقبات لوجستية وسياسية، نظرًا إلى تعقيدات طرق العبور ومشاركة البنية الأساسية الروسية.
ويثير إمكان الاستمرار في استيراد الغاز الروسي تحت ستار الإمدادات الأذربيجانية مخاوف إستراتيجية وأخلاقية.
وقد تتجاهل كييف مصدر الغاز بسبب الفوائد الاقتصادية المحتملة وبصفته صورة من صور التأمين ضد المزيد من العدوان الروسي.
تجدر الإشارة إلى أن هذه الحجة ضعيفة، بالنّظر إلى الهجمات الروسية المستمرة على البنية التحتية الأوكرانية، بما في ذلك محطات ضغط الغاز.
ولن تكون مشاركة روسيا في مثل هذه الصفقة مدفوعة فقط برسوم العبور؛ فالتداعيات الجيوسياسية، بما في ذلك الحفاظ على النفوذ على أسواق الطاقة الأوروبية، قد تكون عاملًا مهمًا.
بالإضافة إلى ذلك، فإن شراء الغاز مباشرة من التجار في الاتحاد الأوروبي على الحدود بين أوكرانيا وروسيا قد يزيد من تورط أوكرانيا مع شركة غازبروم، ما يجعل الخيار الأذربيجاني أكثر جاذبية على ما يبدو.
في المقابل، فإن كلا الخيارين ينطوي على تحديات وضبابية كبيرتين.
رابعًا: مشهد الطاقة المعقد
يمثّل الاقتراح باستبدال إمدادات أذربيجانية بالغاز الروسي حلًا معقدًا ومثيرًا للجدل لاحتياجات أوروبا من الطاقة.
وتُسهم التحديات المتمثلة في التحقق من أصل الغاز، والتداعيات السياسية لاستعمال طرق العبور الروسية، والتعقيدات اللوجستية لضمان إمدادات ثابتة، في حال الضبابية المحيطة بهذه الخطة.
ومع استمرار المفاوضات، فإن النتيجة سوف تؤثر بصورة كبيرة في مشهد الطاقة في أوروبا، والموقع الاقتصادي والإستراتيجي لأوكرانيا، ودور روسيا في المنطقة.
ويؤكد هذا الموقف التفاعل المعقد بين السياسة والاقتصاد وأمن الطاقة في عالم سريع التغير.
التوقعات المستقبلية والاعتبارات الإستراتيجية
بالنّظر إلى المستقبل، من المرجح أن تستمر إستراتيجية تصدير الغاز الروسية في التركيز المزدوج على الصين وأوروبا، والاستفادة من ديناميكيات السوق المختلفة في كل منطقة.
وتُعَد إمكانات النمو المستقبلي في الصادرات إلى الصين، التي قد تتجاوز 100 مليار متر مكعب بحلول نهاية العقد، كبيرة.
ويشمل ذلك خططًا لمسار الشرق الأقصى، المتوقع أن يبدأ في عام 2027، وخط أنابيب باور أوف سيبيريا 2 الطموح، الذي قد يعوّض جزئيًا عن خسارة الأسواق الأوروبية.
وفي الوقت نفسه، ما يزال مستقبل نقل الغاز عبر أوكرانيا غير مؤكد، إذ من المقرر أن تنتهي اتفاقية النقل الحالية في ديسمبر/كانون الأول 2024.
وقد تعتمد النتيجة بصورة كبيرة على المشهد الجيوسياسي وتغييرات القيادة، خصوصًا في الولايات المتحدة. وعلى الرغم من ذلك، فإن إطار التشريع الأوروبي يسمح باستمرار نقل الغاز عبر أوكرانيا، ربما دون اتفاقية جديدة، شريطة وجود طلب في أوروبا وبيع القدرة وفقًا لذلك.
خلاصة القول، تتعامل إستراتيجية تصدير الغاز الروسي مع مشهد عالمي معقد، يتميّز بتفضيلات السوق المتغيرة والتحديات الجيوسياسية والحاجة إلى التكيف مع البنية التحتية.
وبصفتها أكبر مصدر للغاز في العالم، فإن قدرة روسيا على مواجهة هذه التحديات ستؤثر بصورة كبيرة في أسواق الطاقة العالمية في السنوات المقبلة.
فيلينا تشاكاروفا، متخصصة في الشؤون السياسية بالدول المنتجة للطاقة.
*هذا المقال يمثّل رأي الكاتبة، ولا يعبّر بالضرورة عن رأي منصة الطاقة.
موضوعات متعلقة..
اقرأ أيضًا..
Leave a Reply